الخوف من الشرك
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ
اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) ((يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء
وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) أما
بعد :
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله
عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، من أجل توحيد الله
وإفراده بالعبادة خلقت الخليقة، ولتحقيقه شرعت كل عبادة، فالتوحيد هو الغاية
العظمى، والمقصد الأسنى، قال ربنا جل جلاله: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) ، وقال سبحانه وتعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء)).
كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يخافون على أنفسهم من
الوقوع في الشرك، يخافون من الوقوع في الشرك وقد حذر الله تبارك وتعالى أنبياءه
ورسله مع منزلتهم العالية، حذرهم من الوقوع فيه، وحاشاهم عن ذلك، قال ربنا جل
جلاله: ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) ، وعلى
ذلك سار السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، قال حذيفة رضي الله عنه:
"كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر
مخافة أن يدركني"، في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر من قول: (يا
مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قيل له: يا رسول الله، وإن القلوب لتتقلب؟ قال
عليه الصلاة والسلام: إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف
يشاء)، فإن شاء سبحانه أقامها على دينه، وإن شاء أزاغها، فالعبد إذا منّ الله
تبارك وتعالى عليه بالتوحيد علما وعملا، فعليه الخوف من زوال هذه النعمة، وحقيقة
الخوف من الشرك: صدق الالتجاء إلى الله تبارك وتعالى والاعتماد عليه، والابتهال
والتضرع إليه، والبحث والتفتيش عن الشرك ووسائله وذرائعه ليسلم من الوقوع فيه، فإن
عقابه عظيم، وجرمه كبير، يقول بعض السلف: "من أمن على إيمانه سلبه"، قال
الله تبارك وتعالى مبينا عاقبة الشرك ومآل أهله: ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن
يُشْرَكَ بِهِ)) أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، أي: عادل غيره به فيما يختص
به سبحانه، وصارف خالص حقه لغيره، ومشبه المخلوق العاجز بمن له الكمال المطلق من
جميع الوجوه، وإذا كان من مات على الشرك لا يغفر له، وجب على العبد شدة الخوف من
الشرك الذي هذا شأنه عند الله تبارك وتعالى، ومع كونه أعظم الذنوب عند الله عز
وجل، ولا يغفر لمن لقيه، فهو هضم للربوبية، وتنقص للألوهية، وسوء ظن برب العالمين
جل جلاله .
ثم قال ربنا سبحانه وتعالى: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ))[النساء:48] أي: يغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء من
عباده، في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام (أعطي ثلاثا منها: وغفر لمن لم يشرك
بالله من أمته شيئا المقحمات) يعني: الكبائر، ففيه فضل السلامة من الشرك قليله
وكثيره، صغيره وكبيره .
فتبين بهذه الآيات ونحوها أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن
الله تبارك وتعالى أخبر أنه لا يغفر لمن لم يتب منه .
وأما ما دونه من الذنوب فهو تحت مشيئة الله تبارك
وتعالى، إن شاء غفر لمن لقيه به، وإن شاء عذبه.
ومن أجل ذلك : يجب الحذر من الشرك كله، ومنه ما وقع فيه
كثير من المنتسبين إلى الإسلام من الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في الأنبياء
والصالحين، بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والنذر والذبح لهم، وطلب الشفاعة
منهم، وقد حذر نبينا صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك كله. ولا كفارة لهذا الشرك
إلا بالتوبة منه، وإخلاص العمل لله وحده، وإلا فمن مات عليه فإنه مخلد في نار
جهنم، قال الله عز وجل: ((إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ
عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) ،
وها هو الخليل إبراهيم عليه السلام يدعو ربه بدعاء عظيم: ((وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ
أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ)) أي: اجعلني وبني في حيز وجانب عن عبادة الأصنام،
وباعد بيننا وبينها، وهذا مما يخيف العبد، فإذا كان الخليل عليه السلام إمام
الحنفاء، الذي جعله الله أمة وحده، وابتلي بكلمات فأتمهن، وقد كسر الأصنام بيده،
يخاف أن يقع في الشرك، فكيف يأمن الوقوع فيه من هو دونه بمراتب، بل أولى بالخوف
منه، وعدم الأمن بالوقوع فيه، قال إبراهيم التيمي غفر الله له: "ومن يأمن
البلاء بعد إبراهيم عليه السلام".
وقد وقع فيه الكثير من هذه الأمة بعد القرون المفضلة،
فبنيت المساجد والمشاهد على القبور وغيرها، وصرفت لها العبادات بأنواعها، وشابهوا
ما وقع في الجاهلية وأعظم، واتخذوا ذلك دينا، وهي أوثان وأصنام، فإن الصنم ما كان
مصورا على أي صورة، والوثن ما عبد مما ليس له صورة، كالحجر والأبنية، وقد يسمى
الصنم وثنا، كما قال الخليل عليه السلام: ((إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً)) فالأصنام أوثان كما أن القبور بالنص
أوثان، فالوثن أعم، قال بعض العلماء: "كل ما عبد من دون الله تبارك وتعالى
فهو صنم، وقد بين الخليل عليه السلام، السبب الذي أوجب له الخوف من ذلك بقوله: ((رَبِّ
إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ)).
ومن أنواع الشرك الذي يخاف منه : ما ذكره رسول الله صلى
الله عليه وسلم بقوله: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه عليه الصلاة
والسلام فقال: الرياء)، لم يترك نبينا صلى الله عليه وسلم خيرا إلا دل أمته عليه،
ولا شرا إلا حذرها منه، ومن أعظم الشرك الذي حذرها منه: الرياء، وهو أن يظهر العبد
عبادته أو يحسنها ليراه الناس فيمدحوه عليها، وهذا شرك أصغر يبطل العمل الذي
قارنه، ويأثم صاحبه، لأن ربنا جل جلاله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، فإذا
كان نبينا صلى الله عليه وسلم يخاف الشرك على أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، الذين
وحدوا الله، ورغبوا إلى ما أمروا به، وهاجروا وجاهدوا وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم
صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يخافه ومن فوقه لا يدانيهم، ومن لا نسبة له إليهم في
علم ولا عمل؟ فينبغي للمسلم أن يحذر كل الحذر ويخاف أن يقع في الشرك الأكبر إذا
كان الشرك الأصغر مخوفا على الصالحين، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أمته
بوقوع الشرك، وقد عمت به البلوى في أكثر الأقطار، حتى اتخذوه دينا، مع ظهور
البراهين في النهي عنه، والتخويف منه، وأفاد الحديث أن الرياء من الشرك الأصغر،
وأنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
والشرك قسمان: أكبر وأصغر، وبينهما فرق في الحكم والحد.
فالأكبر: أن يسوي غير الله بالله فيما هو من خصائص الله،
كالمحبة والدعاء والذبح، وحكمه: أنه لا يغفر لصاحبه أبدا إلا بالتوبة، وأنه يحبط
جميع الأعمال، وأن صاحبه خالد مخلد في نار جهنم.
أما الأصغر: فهو ما أتى في النصوص أنه شرك ولم يصل إلى
حد الشرك الأكبر، وحكمه: أنه لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة، لعموم قوله تبارك
وتعالى: ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ)) وأنه يحبط العمل الذي
قارنه، ولا يوجب التخليد في النار، ولا ينقل عن الملة.
ولا يخفى أن الدعاء عبادة من أجل العبادات وأعظم
القربات، فمن جعل لله ندا يدعوه سواء كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا، أو عبدا صالحا
أو غير ذلك، فقد وقع في الشرك الأكبر الذي لا ينفع معه عمل صالح، ولو كان صاحبه من
أعبد الناس.
معاشر المؤمنين: يقول ربنا جل جلاله: ((وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) ، وفي الحديث الذي رواه البخاري
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار) في
هذا الحديث: التحذير من الشرك والتخويف منه، فمن جعل لله ندا في العبادة، يدعوه
ويسأله، ويستغيث به، ويطلب منه المدد، نبيا كان أو غيره دخل النار، والند: المثل
والشبيه، واتخاذ الند على قسمين: أن يجعل لله شريكا في أنواع العبادة أو بعضها،
فهذا شرك أكبر، والثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر، كقول الرجل: ما شاء الله
وشئت، ولولا الله وأنت، وكيسير الرياء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية غفر الله له:
"وكبخله لحب المال ببعض الواجب، وهو شرك أصغر، وحبه لما يبغضه الله حتى يقدم هواه
على محبة الله شرك أصغر"، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن
لقيه يشرك به شيئا دخل النار). قال شيخ الإسلام رحمه الله: "هذا حديث الموجبتين:
موجبة السعادة وموجبة الشقاوة" وإذا علم العبد ذلك وتحققه، خاف من الشرك أعظم
الخوف، كيف لا والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يخافون منه، وقد سمعنا دعاء الخليل
إبراهيم عليه السلام: ((وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ)) فخاف
على نفسه وعلى بنيه عبادة الأصنام.
ألا إن بعض الناس قد أحسن الظن بأنفسهم، وظنوا أنهم يسلمون من هذا ولا يقعون فيه، فوقعوا فيه وفيما هو أعظم منه، إن بعض من ابتلوا بالبدع والخرافات والشركيات، وبناء القباب على قبور الأولياء والصالحين والطواف بها، كما يشاهد الآن في القنوات، وفي غيرها مما ينقل، يطوفون حولها، ويدعون أهلها من دون الله تبارك وتعالى، ويزعمون أن الله عز وجل أوكل تصريف الكون لهؤلاء الأولياء والأقطاب، يدعونهم ويستغيثون بهم ويلجؤون إليهم في الشدائد والمهمات، حتى إنهم خالفوا كفار قريش في هذا الأمر، كان كفار قريش يشركون في الرخاء، فإذا كانت الشدة وركبوا الفلك، وخشوا الغرق دعوا الله مخلصين له الدين، لأنهم يعلمون أنه لا ينجي إلا الله تبارك وتعالى، وأما مشركو زماننا، الذي يدعون الأولياء والصالحين، كما كان يدعوهم قوم نوح، يدعون ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، هؤلاء الذين في زماننا إذا كانت الشدة زادوا شركا بالله تبارك وتعالى، ولجؤوا إلى هؤلاء الأولياء والصالحين، وإذا نصحهم الناصحون، وحذرهم الداعون إلى توحيد رب العالمين، أحسنوا الظن بأنفسهم وقالوا: (إن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وزعموا أن الشرك لا يقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والواجب عليهم أن يتعلموا معاني أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الكلمة المباركة كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، إنما تنفع صاحبها إذا علم معناها وعمل بها، والعمل بها: هو توحيد الله تبارك وتعالى، إذ معناها: لا معبود بحق إلا الله عز وجل، وأما زعمهم أن الشرك لا يقع في المصلين المزكين الحاجين إلى بيت الله الحرام المسلمين، فإن هذا خطأ ومخالفة لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى) و(أن الساعة لا تقوم حتى تضطرب اليات نساء دوس حول ذي الخلصة)، وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم: (أن الساعة لا تقوم حتى تلحق قبائل من أمته بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمته الأوثان)، ويكفينا قول نبينا صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، وهؤلاء الذي أحسنوا الظن بأنفسهم تراهم إذا سمعوا الداعي إلى توحيد رب العالمين المحذر من الشرك بالله تبارك وتعالى يأنفون من ذلك وتضيق صدورهم، ويقولون: وهل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم شرك؟ لا تتهموا أهل الإسلام بالوقوع في الشرك، وهم يرونه عند قبور الأولياء والصالحين، وفي يوم مولد ذلك الولي، يطوفون حوله، ويدعونه بل وينذرون ويذبحون له من دون الله تبارك وتعالى، فلا يحركون ساكنا، ولا ينصحون لله تبارك وتعالى، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
اللهم يا حي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام ...